في الفترة الماضية، وقعت بين يديّ رسالة للفيلسوف يعقوب الكِندي (185 هـ – 256 هـ)، تحت عنوان «في الحيلة لدفع الأحزان»، والتي تناولت كيفية التعامل مع الحزن، وهو موضوع يتناسب تمامًا مع المرحلة التي نعيشها. وقد وجدت في هذه الرسالة ما يشبه الكنز الفلسفي، إذ تعرض لأسس “عقلية التعامل مع الحزن”، وتجد أن العديد من مبادئه تتقاطع مع ما نعرفه اليوم عن التخفف أو الـ Minimalism، إذا فهمناه على أنه التركيز على الجوهر وتجنب المشتتات.
ما لفت انتباهي بداية هو العنوان نفسه «في الحيلة لدفع الأحزان»، فقد تساءلت: لماذا اختار الكندي أن يسمي طريقة التعامل مع الحزن “حيلة”؟ لماذا لم يستخدم كلمة “طريقة” أو “وسيلة”؟ وعندما بحثت في المعجم، وجدت أن كلمة “الحيلة” تعني «الحِذْقُ، وجودة النظر، والقدرة على دقة التصرف في الأمور»، ما يعني أن الحزن يتطلب منا تصرفًا واعيًا وماهرًا للخروج منه، وهذه الحيلة تتطلب مهارة وجهدًا مستمرًا. فالحزن ليس حالة عابرة يمكن تجاوزها بسهولة، بل يتطلب جهدًا واعيًا وتحليلاً مستمرًا لمشاعرنا وأسبابها.
فكرة أخرى مهمة في رسالة الكندي هي أن «المصائب جزء من أصل التكوين». الحزن والمصائب لا يمكن إزالتها تمامًا من حياتنا لأننا كائنات بشرية قابلة للتأثر، وإذا أردنا أن نعيش حياة بلا مصائب فإننا نرغب في حياة لا تُسمى حياة. يعزز الكندي هذا المفهوم، فيقول أن تقبل الألم كجزء من التجربة البشرية هو أحد أساسيات التعامل مع الحزن.
مفهوم الحزن عند الكندي
يعرّف الكندي الحزن بأنه «ألم نفساني يعرض لفقد المحبوبات أو فوت المطلوبات»، أي أن الحزن ينشأ عندما نفقد ما نريد أو عندما لا نحصل على ما نتمناه. معرفة هذه الأسباب جزء أساسي من التخفيف من تأثير الحزن، لأنه كما يقول الكندي: «كل ألم غير معروف الأسباب لا يمكن الشفاء منه»، وبالتالي فإن فهم جذور الحزن يساعدنا في مواجهته.
ومن وجهة نظر الكندي، الحزن ليس طبعًا ثابتًا، بل هو حالة مؤقتة يمكننا الخروج منها، وهذا يفتح لنا المجال للتعامل مع الحزن من منطلق الوعي باللحظة، وليس باعتباره حالة دائمة أو حتمية.
أربع حِيَل للتعامل مع الحزن
-
القُنية: حيلة فهم ما نمتلكه حقًا
يدعو الكندي إلى أن نكون واعين لما نملكه بالفعل في حياتنا، مشيرًا إلى أن معظم الأشياء التي نملكها ليست ملكًا حصريًا لنا بل هي أشياء مشتركة بين الناس. مثلاً، لا يمكننا أن نبني حزننا على فقد شيء متاح للجميع مثل المال أو النجاح الاجتماعي. ما يميزنا حقًا هو «خيرات أنفسنا»، أي تلك الخصال والقدرات التي تمثل جوهرنا، والتي لا يمكن لأي شخص آخر أن يمتلكها عنا.
-
الإعارة: حيلة فهم مبدأ العطاء والإرجاع
كل شيء نملكه، سواء كان ماديا أو معنويًا، هو في الحقيقة «عارية» أعارنا إياها الله، ويمكنه استرجاعها متى شاء. من هذا المنطلق، يشير الكندي إلى أن فقدان أي شيء هو مجرد استرجاع لعارية، وليس خسارة حقيقية، طالما أن الله هو صاحب الإرادة المطلقة في إعارة هذه الأشياء لنا. لذلك، يجب أن نتقبل فقدان الأشياء في الحياة بشكر وإيمان، لأنه جزء من النظام الكوني.
-
التخفف: حيلة العيش بدون أثقال
الكندي يرى أن مشكلة الإنسان تكمن في رغبته في امتلاك الأشياء التي لا يحتاجها، مما يؤدي إلى شعور دائم بالهم والخوف من فقدانها. وقد قارن الكندي الإنسان بالحيوان الذي يعيش سعيدًا دون تكلف طالما لا يتعرض لآلام محسوسة. أما الإنسان، فيعيش في قلق دائم بسبب التعلق بالأشياء التي قد لا يكون بحاجة إليها في الواقع. التخفف يعني التخلص من هذه الأثقال المادية والمعنوية التي تستهلك طاقتنا.
-
الموت: حيلة كره الرديء
وأخيرًا، يشير الكندي إلى أن الموت ليس الرديء الذي يجب أن نخاف منه، بل الخوف من الموت هو الرديء. الموت جزء من حياتنا، وهو ما يجعلنا بشرًا. هو النهاية الطبيعية لأي كائن حي. إذا تقبلنا هذه الحقيقة، فإننا لن نشعر بالحزن على فقدان الحياة، بل سنتعامل مع الموت كجزء من دورة الحياة. فكل ما عدا الموت لا يمكن أن يكون أكثر رديئة من الموت نفسه.
ملاحظات وتأملات
على الرغم من أن هذه الحِيَل التي قدمها الكندي قد تبدو بديهية، إلا أن تطبيقها فعلاً في الحياة اليومية ليس بالأمر السهل. كثير من الأحيان نعرف ما يجب علينا فعله لكننا لا نفعله. لكن الفكر الذي طرحه الكندي في رسالته يساعد على فهم كيفية التعاطي مع الحزن من خلال عقلية منطقية وعقلانية. ربما تكون هذه العقلانية قاسية بعض الشيء على مشاعرنا، ولكنها تقدم إطارًا يمكن أن يكون مفيدًا في التعامل مع الحزن.
كما أنني أؤمن أن فلسفة الكندي لا تتعارض مع الطموح والسعي لما هو أفضل، لكننا بحاجة إلى التخفيف من الأعباء النفسية التي يحملها الحزن، وبدلاً من أن نبحث عن سبب للخسارة والألم، علينا التركيز على العيش في اللحظة، والابتعاد عن الهوس بفقدان الأشياء التي لا نملكها.
ختامًا، كما قال الكندي: «أن نكون سعداء يعني أن تكون إرادتنا ومحبوباتنا ما تهيأ لنا، ولا نأسى على فائتة ولا نتطلب غير المتهيء من المحسوسة». وهذا تذكير بأن الحزن جزء من الحياة، ولكن التعامل معه يتطلب منا أن نكون أكثر وعيًا بما نملك، وأن نحرر أنفسنا من عبء الحزن الزائد الذي نتكبد به.
ما رأيك؟
إظهار التعليقات / اترك تعليقًا