في رسالة الندوة (The Symposium)، يتناول أفلاطون فكرة نشأة الحب بشكل فلسفي عميق، حيث يرى أن الحب بين العشاق يبدأ في عالم سابق يتجاوز العالم الذي نعيش فيه، وهو ما يسميه بـ “عالم المُثل”. هناك في هذا العالم المثالي، كان الأحباء معًا في كينونة واحدة قبل أن ينفصلوا في العالم الدنيوي. وعندما يدخل الإنسان هذا العالم، تبدأ رحلته في البحث عن شقه الآخر الذي كان معه في العالم المثالي. يذكرنا أفلاطون بفكرة الروح المقسومة التي تبحث عن نصفها الآخر، ويعيد تكرار هذه الأسطورة في العديد من الأعمال الأدبية والفلسفية، مما يعزز فكرة “الشريك المثالي” أو الـ “Soulmate”.
هل حقًا يوجد “شريك واحد”؟
قد تبدو هذه الفكرة غريبة ومبالغة في عصرنا الحالي، حيث يتساءل البعض: هل هناك شخص واحد فقط بين سبعة مليارات إنسان على هذه الأرض من يطابقك تمامًا ويكملك؟ وبالرغم من أن هذه الفكرة شائعة في الأدب الغربي، نجد أن لها جذورًا مشابهة في التراث العربي الإسلامي، وتحديدًا في طوق الحمامة في الألفة والألاف للإمام الأندلسي ابن حزم.
ابن حزم: الحب من منظور عقلاني
في رسالة طوق الحمامة، يعرض ابن حزم تصوره للحب، وهو بعيد عن الفكرة الأفلاطونية التي تركز على النصف الآخر. إذ يعتقد ابن حزم أن الحب ليس فقط نتيجة للانقسام بين الأرواح، بل هو أيضًا اتحاد بين النفوس المتشابهة. حيث يصف الحب بأنه “اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع”. يرى أن هذه النفوس تتجاذب من خلال التشابه الروحي، وليس بالضرورة عبر الانفصال بين الكينونات.
الحب بين الخيال والحقيقة
ابن حزم لم يكن رومانسيًا في تصوره للحب كما اعتدنا أن نراه في الأدب الغربي، فهو يصف الحب بأعلى درجات المنطق والفلسفة. في كتابه، يسرد العديد من القصص التي تكشف عن مواقف عاطفية قد تبدو غريبة. على سبيل المثال، يروي قصة عمار بن زياد الذي أحب جارية رآها في منامه، وهو ما يعكس كيف أن الحب يمكن أن يسيطر على الإنسان حتى في غياب الواقع. كيف يعقل أن يقع الإنسان في حب شخص خيالي، لم يره قط؟ هذا بالطبع يعكس طبيعة الحب التي يمكن أن تخرج عن حدود المنطق وتأسس لشعور مرهف ومعقد.
أفكار ابن حزم عن الحب:
- مسببات الحب: يعتقد ابن حزم أن الحب لا يعود فقط إلى الجمال الجسدي أو الأخلاق الحسنة. بل هو شيء غامض، مرتبط بالتشابه الروحي الذي يحدث في عالم علوي، قبل أن يتم تشويش هذا الاتصال بالأرضي. كما يقول في طوق الحمامة: «السر في التمازج والتباين هو الاتصال والانفصال، والشكل عادة يستدعي شكله». وهذا يتماشى مع فكرة سورين كيركغارد الذي قال: «يمكنك أن تحب جسد وعقل الشخص ربما لمنفعته لك، لكن لا تستطيع أن تحب روح شخص ما لسبب مادي ودنيوي».
- الحب من أول نظرة: يرفض ابن حزم فكرة الحب من أول نظرة، معتبرًا إياه شهوة وليست محبة حقيقية. فيقول: «ما دخل الروح عسيرًا لم يخرج يسيرًا»، مما يعني أن الحب الحقيقي يحتاج إلى وقت طويل وتجربة مشتركة لا إلى مشاعر عابرة، مثلما تتجسد في الأفلام الرومانسية.
- الحب والجمال: يميز ابن حزم بين “الحب” و”الوقوع في الحب” بسبب الجمال. إذ يعتقد أن الجمال وحده ليس كافيًا لخلق محبة حقيقية. لكن إذا كان الجمال يجذب النفس، فإن الاتصال الحقيقي لا يحدث إلا عندما يشعر الشخص بالتشابه الروحي والوجداني مع الآخر.
- الحب بين اثنين: يرفض ابن حزم أيضًا فكرة أن شخصًا ما يحب اثنين في نفس الوقت، مؤكدًا أن المحبة هي انشغال تام للقلب لا يسمح له بأن يوزع مشاعره. يقول: «ليس في القلب موضعٌ لحبيبين»، أي أن الحب لا يمكن أن يتجزأ بين أكثر من شخص.
العلاقات والمفاهيم الحديثة
ما يطرحه ابن حزم من أفكار حول الحب قد يثير تساؤلات في ظل المفاهيم الحديثة للعلاقات. مع تقدمنا في العصر الحالي، أصبحت العلاقات تميل إلى أن تكون أكثر مرونة وأقل في التزاماتها بالمفاهيم التقليدية. نجد في هذا العصر “العلاقات المؤقتة” (situation-ships) التي تركز على الظروف أكثر من التركيز على الدوام العاطفي العميق. هذا يعكس التغيير في نظرتنا للعلاقات والحب، خاصة في ظل التحديات والضغوطات النفسية التي نعيشها.
خلاصة:
الحب ليس دائمًا شيئًا فوضويًا وعاطفيًا فقط، بل هو ارتباط روحي وعقلي أيضًا. بالنسبة لابن حزم، الحب هو التشابه الروحي الذي يتجاوز الزمان والمكان. أما في العصر الحالي، نعيش في عالم متعدد الواجهات العاطفية والاجتماعية، حيث يتداخل الحب مع الواقع الدنيوي. ورغم كل ذلك، تظل فكرة الحب كـ «اتصال» تبقى حية في قلوبنا، سواء كان من أول نظرة أو كان محكومًا بالوقت والظروف.
ما رأيك؟
إظهار التعليقات / اترك تعليقًا