جار التحميل

في المجرد والمطلق: الحنين إلى ما لا يدرك

svgأبريل 2, 2025تدويناتي

أتذكر جيدًا قول أحد الحكماء – فرج الله كربه – حين قال: «قراءة الشعر ترقق القلب». هذه المقولة تذكرتها بعد أن انتهيت للتو من قراءة كتاب “الشعلة الزرقاء”، الذي يجمع 36 رسالة سرية كتبها جبران خليل جبران إلى محبوبته الأديبة مي زيادة. بين هذين الشخصين استمرت علاقة عاطفية قوية استمرت عشرين عامًا، دون أن يلتقيا يومًا في الواقع، فقط في عالم “الفكر والروح والخيال الضبابي”، كما وصفه جبران.

لن أتحدث هنا عن الكتاب بشكل تفصيلي أو عن أدب الرسائل، بل سأركز على الفكرة التي سكنت نفسي بعد القراءة، الفكرة التي يمكن تلخيصها بكلمة واحدة: اعتناق المجرد.

في أثناء قراءتي لتلك الرسائل، كان شعوري كطفل يتسلل بين خاطبين، محاولًا اكتشاف أسرارهم، فقط لمجرد الفضول والاندماج الوجداني. كنت أقرأ النصوص بتلقائية، دون أن أفكر في كيفية استفادتي من هذه الكلمات في حياتي، أو كيف يمكنني تحليل هذا النص بشكل منطقي. لأول مرة، قاومت نزعة التفتيش عن السياق التاريخي لهذه الرسائل وقرأت النصوص كما هي، متخليًا عن أي محاولة لفهم الخلفية أو التفسير.

أول مرة في حياتي، شعرت بأنني أقرأ فقط من أجل الاستمتاع بالكلمات، وتذوق موسيقيتها، والانسجام مع “المجرد”. هذا المجرد، الذي لا يمكن تعريفه أو قياسه أو تقييده، هو ما يجعل هذه الرسائل مليئة بالروحانية، وهو الذي يحررني من الفخ الذي طالما وقعت فيه، وهو محاولة تفسير كل شيء وتحويله إلى منطق مادي. فالبشر بطبعهم يميلون إلى تفسير كل شيء، وتحليل كل حدث، وهذا يدفعنا أحيانًا إلى قلق لا مبرر له.

أعتقد أن جزءًا كبيرًا من جوهر الأديان هو تدريبنا على تقبل فكرة أننا لن نفهم كل شيء، وأن هناك أمورًا تتجاوزنا ولا يمكننا الإمساك بها بعقولنا المحدودة. في هذا الصدد، نجد في رسائل جبران احتفالًا بـ “المطلق”، ذلك الذي لا يخضع لمنطق أو مادية، بل يتجاوزهما إلى عالم لا مادي ولا منطقي.

أقرأ الآن كلمات جبران، وأشعر بأنني انتصرت على لعنة “الإنتاجية” و”الفاعلية” التي تسيطر على حياتنا. في زمن تتسارع فيه كل تفاصيل حياتنا من خلال الأرقام والنتائج الملموسة، يصبح الترفيه نفسه شيئًا نريد أن نترجمه إلى “مادة معرفية” تساعدنا على تحسين حياتنا. أصبحنا نريد أن نطور أنفسنا حتى في لحظات الراحة، ولكن حين نعيش مع المجرد، نعود إلى مكان أكثر هدوءًا، حيث يكفي أن نكون نحن. يكفي أن نستمتع بلحظة فنية أو روحية، دون أن نبحث عن فائدة ملموسة.

أجد في رسائل جبران وصفًا جميلاً لهذا المجرد. يقول:
“من منا يا ماري يستطيع أن يترجم لغة العالم الخفي إلى لغة العالم الظاهر؟”
هو في هذا النص يتحدث عن عالم الروح الذي لا يمكن ترجمته إلى كلمات بسيطة، عن شعلة بيضاء في الروح لا نستطيع وصف أسبابها أو نتائجها، لكنها تظل هناك، ونشعر بها بعمق.

وفي إحدى رسائله الأخرى، يكتب:
“الحياة يا مي، لا تقف في مكان من الأمكنة، وهذا الموكب الهائل بجماله لا يستطيع سوى المسير من لا نهاية إلى لا نهاية”.
هنا نجد أنه يشير إلى فكرة الوجود الذي لا يقف عند لحظة معينة، بل هو في حركة دائمة نحو الأفق اللامتناهي.

إذا كانت هذه الرسائل قد فعلت شيئًا بي، فقد جعلتني أحن إلى المجرد، ذلك العنصر الشفاف الذي يهرب من التصنيف والتحديد. المجرد هو ما لا يمكن إدراكه إلا بروحنا، وهو ما يعبر عن “اللامحدود”، ذلك الذي يعجز الفكر عن استيعابه. هو الوجود المطلق الذي يتجاوز المادة والتفسير، ويقف في وجه المنطق.

هل كنتِ تعلمين، مي، أن رسائلك التي بعثتيها منذ حوالي تسعين عامًا ستظل تؤثر في نفسي الآن، في هذا الزمن؟ هل كنتِ تعلمين أنني سأقرأ رسائلك وأشعر بمشاعر من الحنين إلى ما لا يمكن لمسه؟ هذا المجرد الذي لا يمكن للعقل أن يقبض عليه، هو ما يجعل هذه الرسائل أكثر من مجرد كلمات مكتوبة. إنها تفتح لي نافذة على روحك، على عالم لا يتوقف، على كل ما هو أبعد من الملموس.

إلى روح جبران، أسألك: هل كنتِ تعلمين أنني سأشعر بما شعرتِ به في رسائلك؟ هل كنتِ تعرفين أنني سأتسلل بين كلماتك كما يتسلل طفل بريء بين خاطبين؟ هذا المجرد الذي يعبر عن “الخروج إلى المطلق”، هو ما يعيدنا إلى ما هو أعمق، أوسع، وأكبر من الحياة اليومية التي نعيشها.

svg

ما رأيك؟

إظهار التعليقات / اترك تعليقًا

اترك رداً

svg
تنقل سريع
  • 01

    في المجرد والمطلق: الحنين إلى ما لا يدرك